بعد الانقلاب في النيجر الأسبوع الماضي ظهرتُ على عدة قنوات تلفزيونية كمحلل سياسي، كانت اراء القنوات متباينة لكنها كانت مجمعة على خطورة ما يجري وما سينجر عنه في هذا الجو المشحون فوجئت، بأحد الصحافة يطرح على سؤالا مباشرا هل سنسمع فرنسا ارحلي في داكار ونواكشوط.
احداث النيجر وان كانت لم تفصح بعد عن مستقرها ضمن أي الكفتين (فرنسا ام روسيا) الا انها تحلحلت على الأقل في اتجاه اقل ما يقال عنه انه غامض والاشارات الصادرة الان من فرنسا اكبر المتضررين من مغادرة النيجر العش الفرنسي الحصين توحي بأن خطوة الانقلاب لم تكن بمعية فرنسية و ان الخوف الفرنسي بلغ مبلغه فلم يحدث ان اجتمع مجلس الامن الفرنسي بهذه السرعة كما حصل عند انقلاب النيجر الحالي. فالنيجر تحتل موقعاً خاصاً في إستراتيجية الأمن القومي الفرنسي منذ أن بدأت فرنسا عام 1971 عَبْر شركة «أريفا»، التي أصبحت (أورانو) الان في الاستحواذ على استخراج اليورانيوم منها. والنيجر تمدّ فرنسا بـ 35% من احتياجاتها من الطاقة النووية، وهو ما يساهم بدوره في 75% من الطاقة الكهربائية الفرنسية. لكن ازمة الطاقة واستحواذ أمريكا على السوق الأوروبية جعل فرنسا تبحث عن تعزيز لمصادرها المالية فما كان منها الا توجهت للنيجر لنغير القسمة الضيزى التي كانت أبقت بها 10% من مداخيل اليورانيوم للنيجر عادت لتغيرها الى 0% من خلال تغيير ترخيص الشركة اورانو المهيمنة على يورانيوم النيجر ليصبح رخصة تنقيب بدل استخراج اليورانيوم بنسبة صفر في المائة للنيجر هذه الاتفاقيات كانت تحاك بمرأى من الجيش الذي لم يستطع الوقوف صامتا تجاهها فتدخل للإطاحة بحليف فرنسا بازوم الذي كان يخطط لمثل هكذا اتفاق. ويتواجد لفرنسا ما بين 1500 الى 2000 جندي وقد خططت فرنسا لكي تكون هي النموذج الفرنسي الجديد الذي سوق له ماكرون بعد فشله في مالي وبوركينافاسو وطرد جنوده في اعقاب الانقلابات التي تمت والسخط الشعبي المتصاعد والذي طاردهم حتى استقروا في النيجر.
تعود أسباب تنامي العداء لفرنسا في بلدان الغرب الأفريقي كما يرى أحمد نظيف الباحث المختص في شؤون الغرب الافريقي إلى ثلاثة عوامل أساسية: العامل التاريخي، حيث لا يزال الماضي الاستعماري لفرنسا، يُقدِّمها بوصفها القوة الإمبريالية الأولى لبلدان المنطقة؛ والوجود العسكري الفرنسي، الذي أصبح محل انتقاد واسع من الشعوب الأفريقية، بوصفه عنصر تأزيم للمنطقة لا عاملاً من عوامل استقرارها، خاصة في ظل تماهيها مع الأنظمة الغير ديموقراطية التي يستشري فيها الفساد والذي تتهم المصالح الفرنسية بأنها تستغله وتُبْنى عليه إلى جانب عامل خارجي مؤثر يتمثل في التنافس الدولي على المنطقة الذي خلق دعاية مضادة للتواجد الغربي عامة والفرنسي خاصة في غرب افريقيا تلك الدعاية التي بدأت تستساغ لدي بعض النخب المثقفة بوصفها قطيعة مع الإرث الاستعماري السيئ حتى وان أتت في ظل علاقات غير متكافئة.
نعود الى سؤالنا هل سنسمع فرنسا ارحلي في داكار ونواكشوط
سنة 2021 أدى اعتقال عثمان سونكو، الخصم السياسي للرئيس السنغالي ماكي سال، الى إطلاق شرارة غضب عارم بدأ بمظاهرات عفوية، وسرعان ما تحولت إلى أعمال شغب، قُتل فيها 4 أشخاص، ونُهبت ممتلكات خاصة وأبنية تضم وسائل إعلام، ومنها شركات فرنسية تحديدا. عثمان سونوكو يشكل ظاهرة جديدة في الوعي السياسي السينغالي ويستخدم هذا السياسي الشاب لغة جديدة في المجال السياسي السنغالي، ترفع شعار "نريد المزيد من السيادة الاقتصادية والنقدية"، وهو أحد السياسيين القلائل في أفريقيا الناطقة بالفرنسية الذين طالبوا بإصلاح العلاقات مع فرنسا، خاصة فيما يتعلق بالتبعية لمنطقة الفرنك التي تسيطر عليها الدولة الفرنسية.
وتقول الكاتبة فاني بيجو في تقريرها لموقع (Mediapart) ان خطاب خطاب سونكو يحظى بشعبية كبيرة لدى جزء مهم من الشباب، الذين يمثلون نصف السكان تقريبا، ويبدو متحمسا لفكرة إنهاء "النظام الاستعماري الجديد"، و"الهيمنة الأجنبية الفرنسية"، خاصة أن ماكي سال منذ انتخابه عام 2012 حافظ على علاقات وثيقة مع باريس، ونشط عدد من الشركات الفرنسية في البلاد؛ مما يعطي انطباعا "بعودة الاستعمار الاقتصادي".
عثمان سونغو عمدة زنكنشور و البرلماني السابق من 2019 الى 2022 اصبح يتزعم حركة "حرروا الشعب" التي تدعوا بصراحة الى التحالف مع روسيا لأنها هي الحليف المنطقي لإبعاد الغول الفرنسي هذا الزعيم السياسي يدعو اليوم الى تحرير الشعب من السيطرة الفرنسية وهذه الحركة تتطابق في الرؤى مع حركة "والو سينغال" أي حرروا السينغال بزعامة عبد الله واد هذه البؤر المتمردة على النفوذ الفرنسي تضم مليون وواحد وسبعين الف حسب اخر تحقيقات الاستخبارات الفرنسية وذلك قبيل انتخابات 2024 وبالتالي فهي حاضنة لاي تحرك عسكري للاستلاء على السلطة، هذه الحاضنة الشعبية وهذا التوجه السياسي لديه وضوح تام في العلاقة مع فاغنير كما له راي واضح ضد التواجد الفرنسي فهو مرفوض بالنسبة له، كما يرى بعض خبراء الساحل، اذن القبول الفرنسي تآكل بشكل كبير في السينغال ولم يعد له وجود يعول عليه الا في بقايا من النخبة الحاكمة وأجهزة المخابرات. فهل ستسحب هذه التيارات المناهضة لفرنسا الجيش الى جانبها ليحدث التغيير بانقلاب عسكري، هذا ما خلص اليه تقرير استخباراتي فرنسي كما يقول الباحث عبد الحميد العوني قبيل انتخابات 2024.
اما بخصوص نواكشوط فالأمور تختلف بعض الشيء عن بقية العواصم باماكو واقادوكو نيامي داكار فالموقف من فرنسا اقل انقيادا ظاهريا والتواجد الفرنسي العسكري غير ملفت بل ان العلاقة مع فرنسا لم تعد منسجمة منذ ان رفضت موريتانيا الدخول عسكريا بجنودها ابان عملية باراخان واخواتها ضمن الحرب على الإرهاب وكانت إذ ذاك باراخان هي درة العمل العسكري الفرنسي ضد الإرهاب ذلك الموقف ابعد موريتانيا عن فرنسا عسكريا وان كانت الحاجة الفرنسية لها في استراتيجية الامن في منطقة الساحل تشفع لها دائما ويُتَغاضى عن مشاكساتها. هذه الوضعية اضفت نوعا من الاريحية على موقف نواكشوط فلم يعد مرتهنا للموقف الفرنسي بشكل صارخ يولد نقمة شعبية كالتي في العواصم سالفة الذكر، يضاف الى هذا البعد الاقتصادي فخروج موريتانيا من الفرنك الافريقي 1973 وعدم تطور علاقاتها الاقتصادية بفرنسا بشكل خانق جعل النخب والشعب لا تحس بتلك التبعية التي يكتوى بها الجيران في الساحل، اذن يمكن القول ان النموذج الموريتاني في الساحل قد غادر الحضن الفرنسي منذ انقلاب 1984 وطور علاقة مع فرنسا تحافظ على أقل ما يجزئ من التبعية دون تطوير لمسار انفصال او استقلال تامين. إذن فالعلاقة مع فرنسا لا تحمل ضغطا ماديا (عسكريا او اقتصاديا) يكتم انفاس الشعب يستدعي صرخة الرحيل كما هو الحال في مالي والنيجر و بوركينافاسو وربما السينغال،
من هنا يمكن القول ان الحنق الشعبي على فرنسا في دول الساحل له ما يبرره اقتصاديا سياسيا وعسكريا فهذه البلدان بفرنسا وسطوتها حُكمت بأنظمة فاسدة مُدت لها شرايين الحياة من فرنسا حتى اخر رمق فاستنزفت اقتصاداتها واستخدم أبناؤها وقودا لتجارب فرنسا الفاشلة في الحروب على الإرهاب لتتردى في اتون الفقر والجوع والتخلف تحت أنظمة فاسدة تأتمر بأمر فرنسا.
لكن الأخطر من كل ما سبق هو انه بعد خيبات الامل المتتالية لفرنسا في غرب افريقيا يقول بعض الخبراء انها بدأت تستثمر في الجماعات الإرهابية للحفاظ على مصالحها. يقول هشام النجار في مقاله بعرب نيوز فرنسا تميل إلى التفاهم مع الجهاديين في غرب أفريقيا حفاظا على مصالحها، بعـــــد أن أدركت أنها باتت عاجزة عن مواصلـــــة هيمنتها التاريخية على غرب أفريقيا بالوســـــائل التقليدية، تتجه باريس نحو تغيير سياستها بعقد تفاهمات مع الجهاديين في غرب أفريقيا محاولة الحفاظ على مصالحها في ظل توسع النفوذ الروسي هناك، وخوفا من تكرار سيناريو طالبان في المنطقة. وشـــرعت فرنســـا فـــي تقديم نفســـها بوجه جديد على خلفيـــة خبراتها الممتدة ومعرفتها بخبايا الجماعات الإرهابية في الســـاحل ليس لمكافحتها وتكريس سلطة حلفاء عســـكريين هذه المرة، وإنما لإثبات قدرتهـــا علـــى التحكم بورقـــة كيانات غير نظاميـــة تملك ً نفـــوذا ً قويا علـــى الأرض، وتفرض ً شـــروطا على السلطات الحاكمة لقبول التفاوض.
لقد اختلفت نظرة فرنسا لتنظيم القاعدة بمنطقة الساحل المرتبط بفرع التنظيم في بلاد المغرب الإســـلامي عقب الانســـحاب الاضطـــراري لقواتها من المنطقة، وبدا أن الطرفين رســـخت لديهما قناعة مفادها أن كليهما في حاجة إلى الآخر، وهو ما يفتح المجال لســـيناريوهات استنســـاخ الحالة الأفغانية، الأمر الـــذي يقلب المعادلات في وجـــه بعض اللاعبين في هذه الســـاحة الحيوية. وبعد أسبوعين من إطلاق تنظيم القاعدة سراح الصحافي الفرنسي أوليفييه دوبوا إلى جانب أميركي آخر كان رهينة عند التنظيم، أجرت قناة فرانس 24 الإخبارية الرسمية نهاية مارس الماضي، في سابقة هي الأولى من نوعها، ً حوارا مطولا مع زعيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أبوعبيدة يوسف العنابي تحدث فيه كثيرا عن الملفات الإقليمية والدولية. وطغى على كلام العنابي أثناء الحوار الترويج للنماذج المحلية للقاعدة، كحالة الشمال السوري، وفي اطار العلاقة المتوترة مع حلفائها في الساحل ، تروج الدعاية المضادة لفرنسا أن معارضة باريس قد تعني زعزعة استقرار الحكم الداخلي، ويتم استدعاء بعض الشواهد التاريخية على ذلك، كالذي حصل – على سبيل المثال – مع الرئيس الغيني السابق أحمد سيكو توري Ahmed Sikou Touré الذي تجرأ بالقول أمام الجنرال ديجول بأنه “يُفضِّل الفقر مع الحرية على الغنى في ظل العبودية”، ومن ثم قررت الاستخبارات الفرنسية العمل على إضعافه بعد ظهور استدارته نحو الاتحاد السوفييتي، وأيضاً من خلال ما حصل مع الرئيس البوركينابي السابق توماس سانكارا Thomas Sankara الذي كان مقرباً من الاتحاد السوفييتي وكوبا، والذي حوَّل اسم بلاده من فولتا العليا إلى بوركينا فاسو. ويشار إلى أن المخابرات الفرنسية دعمت انقلاباً ضده في عام 1987، كما لا يزال حاضراً في الأذهان تدخل فرنسا العسكري في 2011 في ساحل العاج لإيصال الحسن وتارا إلى كرسي رئاسة الدولة، بعد أزمة دموية ذات خلفية انتخابية تم تفسيرها على أنها تصفية حسابات مع منافسه الرئيس السابق لوران جباجبو. واللافت أن بعض قادة الدول الأفريقية بدؤوا يُفضِّلون، في الآونة الأخيرة، إغضاب فرنسا على إظهار التعاون معها؛ لاتقاء شر النقمة الشعبية الداخلية؛ نظراً إلى ترسخ الشعور المُعادي لفرنسا.
في الوقت الذي تُفضِّل فيه بعض المقاربات الموالية لفرنسا القول إن انتشار الشعور المعادي لفرنسا في أفريقيا ليس إلا نتيجةً لدعاية مضادة يقوم بها المنافسون على النفوذ ولا سيما روسيا؛ ترى مقاربات أخرى أن جزءاً من المسؤولية في حصول ذلك يقع على الأداء الفرنسي في تلك المنطقة، وأن المطلوب هو تصحيح هذا الأداء، والاستعاضة عن احتلال الأرض بإصلاح العلاقة مع عقول وقلوب شعوب الساحل.